يقول المصنف: [فإن عبودية الجهاد من أحب أنواع العبودية إليه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى] يحب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الجهاد، ويحب المجاهدين في سبيله، ووعد المجاهدين في سبيله بأن لهم الجنة كما قال تعالى:
((إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ))[التوبة:111].
هذا بيع عقد بين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وبين عباده، والجهاد هو ذروة سنام الإسلام فلو كَانَ النَّاس كلهم مؤمنين لتعطلت هذه العبودية، لأنه من الذي يُجاهد؟ ومَنْ يُجاهد؟ لكن لما أن جَاءَ إبليس فاتبعه طائفة من النَّاس، فكفروا بالله، فكانوا أعداء الله، وفي المقابل آمنت طائفة من النَّاس، واتبعوا رسل الله، وعصوا إبليس، فكانوا أعداءً لأعداء الله، فسلط الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى أوليائه عَلَى أعداءه، فقاتلوهم فكان منهم الشهداء، وكان منهم من نال هذه المراتب العظيمة، وعذَّب أُولَئِكَ وأذلهم بأيدي المؤمنين، كما أنه إذا شاء عذبهم سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بعذاب من عنده، من الأرض أو من السماء، فيخسف بهم الأرض أو يغرقهم أو يرسل عليهم الصيحة أو يعذبهم بما يشاء من أنواع العذاب، إذا ًوجود إبليس هو سبب لوجود هذا الكفر، وهذا الكفر حصلت بوجوده عبوديات لله تَبَارَكَ وَتَعَالَى من غير أُولَئِكَ الكفار وهم المؤمنون الذين جاهدوا أعداء الله، فلو كَانَ النَّاس كلهم مؤمنين؛ لتعطلت هذه العبودية وتوابعها من الموالاة في الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى والمعاداة فيه التي هي أوثق عرى الإيمان كما جَاءَ في الحديث {أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله} ومنزلة النَّاس من الإيمان بحسب منزلتهم من ولاية الله والمؤمنين وعداوتهم للشيطان وللكافرين، فكل إنسان هو من الإيمان بحسب منزلته من تحقيق هذه الولاية، وتحقيق تلك العداوة، فلا بد منهما معاً، ومن حقق كمال الولاية لله ولرسوله وللمؤمنين وكمال العداوة للكفار ولإبليس اللعين، فهذا هو الذي بلغ الذروة والكمال في الإيمان كما كَانَ إبراهيم عَلَيْهِ السَّلام، وكما كَانَ مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأصحابه من بعده.
فلا تجد قوماً يؤمنون بالله وبرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوادون من حاد الله ورسوله، ولا يجتمع في قلب أحد من النَّاس حب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وحب عدو الله إبليس، وحب الكفر والإيمان جميعاً.
هذه الموالاة والمعاداة نتيجة وثمرة لوجود الكفر ولوجود الشر، ولوجود مادة ذلك الكفر والشر وهو إبليس، فتنوعت العبوديات لله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، تبعاً لوجود هذا الشر الذي هو إبليس وأعوانه.